كلّ بداية تمنح متابعها رغبة في اكتشاف اللاحق عليها، لما فيها من بساطة وسلاسة ولقطات سريعة وإيقاع هادئ أو مضطرب. كلُّ بدايةٍ قصّةٌ، وكلُّ قصة توحي بتتمة لها أو أكثر، لكنّ اللاحق يكشف مسارات أخرى وتفاصيل مغايرة. الواقعيّ حاضرٌ، وإنْ يُغلَّف غالباً بنزواتٍ وغرائبيّات. الجسد والجنس والانفعال تترافق كلّها في سعيّ فرديّ إلى بلوغ أجمل المتع، وأوهام تتجلّى في توقّعات تُخيِّب، أو في انفصامٍ عن وقائع وحقائق، أو في ادّعاء انفصامٍ كهذا. اللعنة تحول دون لقاء شابين، لكنّها تدفعهما إلى مقابلة أحدهما الآخر، من دون أنْ يتعرّف هذا الأحد إلى هذا الآخر.
يتفرّد "أغنية بقرة بيضاء" عن الأفلام الأخرى، بواقعيته وموقفه الإنساني والأخلاقي المناهِض لعقوبة الإعدام. القسوة تبلغ مدى قاهِراً، كتلك القسوة المنبثقة من صدامٍ بين رغباتٍ معطّلة ومشاغل مبتورة وانفعالات تصطدم بانكسارٍ وتمزّق، رغم وهمٍ يقول للفرد، أحياناً، إنّ كلّ شيء بخير. اعتماد الياباني هاماغتْشي على 3 قصص، تختلف كل واحدة منها عن الأخريين تماماً، منطلقٌ للعبة سينمائية تعتمد على كاميرا هادئة في التقاطها مساراتٍ وعلاقاتٍ وأمكنةٍ وانفعالاتٍ، وتوطئة لاختراق عوالم فردية تتشابه في انزلاقها إلى خليطٍ ملتبس وحادٍ بين تخيّلات فانتازية ونزوات غير مكتملة واختباراتٍ بصرية، تجعل هدوء الكاميرا انعكاساً لاضطرابات داخلية، وتصنع من القطع التام بين القصص مداخل إلى سِيَر أفرادٍ غارقين في أوهام عيشٍ.
ذروة المتخيّل الفانتازيّ والنزوات المعطوبة تعثر على شبيهٍ لها، بشكلٍ مختلف، في "ماذا نرى عندما ننظر إلى السماء؟". لقاء صدفة يليه، بعد وقتٍ، لقاء صدفة أيضاً، فيتفق الشابان على لقاءٍ فعليّ في مقهى. هذا عاديّ. لكنّ اللعنة تحوِّل كلّ شيء إلى غير عاديّ. كلّ واحد منهما يستيقظ صباح اليوم التالي فيكتشف أنّه ليس هو. الشكل متغيّر، والناس حولهما لا يعرفانهما. تُطرح تساؤلات عن مسائل تتعلّق باليومي والحياتي والعاطفي والمعيشي، من دون إجابات. هذا حاصلٌ في "أم صغيرة"، إذْ ينفتح الحدث على لقاء غريبٍ بين فتاتين صغيرتين، تكتشف إحداهما بعد زمنٍ أنّ الأخرى أمّها، فتبدأ اللعبة السينمائية في تمرين الكاميرا والتفاصيل والشخصيات والمُشاهدين على مواكبة التداخل العميق بين أزمنة وأنماط حياة وشخصيات، تتبادل مع غيرها أدواراً في المقبل من الوقت.
يكاد ينعدم كلّ فاصلٍ بين الغرائبيّة والنزوات والمتخيّل الجسدي/ الجنسي والرغبات. "أغنية بقرة بيضاء" يتفرّد بواقعيّة بحتة، إلى حدّ أنّ الواقع ـ بحدثه المفصليّ ـ يتحوّل إلى غرائبيّ تتملكه نزوة التسلّط والقمع، رغم كلامٍ يُراد به إظهار طيبة وتسامح وطلب مغفرة. تحوّل يأخذ الحدث إلى مناحٍ أخطر في بيئة تتعنّت في تشدّدها، ويرتكز بعض حاكميها على نصّ قرآني يحمل كلام الله إلى مؤمنيه، رغم خطأ يطيح ببريءٍ. فالمحكوم بالإعدام بريء من جريمة، يعترف مرتكبها لاحقاً بتنفيذها، فيندفع أحد القضاة في رحلة ندمٍ قاتلٍ، يبلغ في نهايتها حدّاً ملتبساً بين موتٍ يُريحه من عذاب، وعيشٍ يجعله يدفع ثمن خطئه يوماً تلو آخر.
نزوات ورغبات
"عجلة الحظّ والنزوة"، يتوزّع على 3 قصص: شابتان وشاب، أستاذ جامعي وشابّة، سيدتان. الغلبة للمرأة. للرجل دورٌ يتمثّل بإثارة نزوة وفانتازيات، أو بتحريضٍ عاطفي على علاقة حبّ وجسد. قصّة السيدتين مختلفة. تتوهم إحداهما بأنّ الأخرى صديقة قديمة لها، فتوافق الثانية على تأدية هذا الدور، قبل اعترافها بحقيقة الأمر، وقبل انقلابها على ذاتها، بدخولها في اللعبة تلبية لنزوةٍ فيها تدفعها إلى محاولة فهم ما يعتمل فيها من شعور وتفكير. لقاء الشابّة بالأستاذ الجامعي، بعد فوزه بجائزة أدبية عن رواية جديدة له، مليء بكلامٍ مباشر وإيحاءات جمّة مرتبطة بنزعة الجنس والمتخيّل الجسديّ. تُسجِّل الشابّة الحوار كلّه، من دون إخباره. في النهاية، تكشف له فعلتها، فيطلب منها إرسال التسجيل له. تخطئ في كتابة عنوان بريده الإلكتروني، فيُفتضح أمره، ويُطرد من الجامعة.